الأحد، 7 ديسمبر 2014

في ذكرى عبد الحليم !


■ كنت طفلاً في العشرين من العمر، عندما كانت ثقافتي لا تتجاوز قراءة قصص إحسان عبد القدوس ،وقصائد نزار قباني وأغاني عبد الحليم حافظ العاطفية. ولم أكن في ذلك الوقت أحتاج إلى أكثر من هذه الأشياء الثلاثة لكي أظهر أمام بنات الجيران بأنني "ولد مثقف" ولست مثل بقية أولاد الحي الذين كانوا يتباهون بقوة عضلاتهم وافتعال المشاكل والخناقات لكي يلفتوا أنظار البنات.

وقد حاولت في بداية مرحلة الطفولة والمراهقة أن أصبح من الأولاد الأقوياء وأخذت أتمرن على رفع الأثقال فوق سطح البيت أولاُ ثم انضممت إلى أحد النوادي الرياضية وكنت أحلم بأن أصبح بطلاً من أبطال كمال الأجسام، ولكن عضلاتي لم تظهر بما فيه الكفاية آنذاك لكي أسير في الشارع منفوخ الصدر وألفت أنظار جميع بنات الحي ... لذلك وجدت أن الطريقة الوحيد لكي أصبح "الفتى الأول" في الحي هي أن أقرأ قصص إحسان عبد القدوس العاطفية وأن أحفظ قصائد نزار قباني الغزلية، وأن أردد جميع أغنيات عبد الحليم حافظ بصوت مرتفع! وبذلك أصبحت "الولد المثقف" الوحيد تقريباً في ذلك الحي البيروتي العريق الذي عشت فيه كل مراحل طفولتي وشبابي. 


ومازلت حتى اليوم اذكر جيداً كيف ساعدتني قصص إحسان وقصائد نزار وأغاني حليم على نجاحي في إقامة علاقات عاطفية أفلاطونية مع معظم بنات الجيران اللواتي سرعان ما تزوجن الواحدة تلو الأخرى! 


وبعد أن أصبحت رجلاً في الثلاثين وتزوجت أنا أيضاً وصار عندي أولاد لم أعد أقرأ قصص إحسان عبد القدوس، ولا قصائد نزار قباني، لأن الرجل عندما يتزوج لا يعود في حاجة إلى كلمات الغزل الرقيقة التي يحفظها من الروايات والقصائد لأنه لا فائدة من استخدام عبارات الغزل مع الزوجة التي تفضل شراء فستاين جديدة أو هدية من الذهب بدلاً من ... الكلام الفارغ! 
ولكنني حتى الآن لم أتوقف عن سماع أغاني عبد الحليم حافظ، رحمه الله. بل مازلت حريصاً على سماع تلك الأغاني الجميلة التي ترتبط عندي بأروع الذكريات في عصر ما قبل البهدلة والزواج! 

وقبل أيام كانت ذكرى وفاة عبد الحليم، ولقد شعرت بالفعل برغبة في البكاء عليه، ليس لأنه صديق لي ، فأنا لم أشاهده شخصياً، بل لأنه كان جزءاً من حياتي في أحلى مراحل الحياة التي لا يمكن لأي إنسان أن يمحوها من ذاكرته أبداً. ولا شك أن كل شخص منا ترتبط ذكرياته الجميلة برموز معينة ، فالذين تجاوزوا الخمسين من العمر لابد أنهم مازالوا يعشقون أغاني محمد عبد الواهب القديمة والتي ترتبط بذكريات شبابهم. والذين تجاوزوا السبعين من العمر يحبون سماع أغاني سلامة حجازي وسيد درويش وصالح عبد الحي. 

أما بالنسبة للنساء فإن الفتاة المراهقة تظل تسمع الأغاني العاطفية إلى أن ... تتزوج، وبعد ذلك تتفرغ كلياً لسماع صراخ الأطفال وثرثرة جاراتها والتشاجر مع زوجها ! 
وهذه حال الدنيا ... !

من كتاب كلام نسوان
عبد الكريم بيروتي
1981

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.